إنه الفن السابع الذى ألهب خيال الملايين منذ قرن من الزمان صعد بالبعض إلى عنان السماء من شهرة أو مال وهبط بآخرين إلى الحضيض حينما فشل فى التعلق بأذياله لقد شكل هذا الفن وجدان ملايين البشر عبر رحلة امتدت مائة عام أو يزيد قليلاً كان السبب فى خير أصاب البعض كما كان السبب فى شرور عدة أصابت آخرين وأعتقد أنى أشهد الآن واحداً من شروره التى تصيب الناس والسبب هو ذلك الفيلم المعروض الآن بإحدى دور العرض والتى كانت منذ شهر واحد فقط واحدة من دور العرض التى لا تلقى إقبالاً من الجماهير فأصبحت الآن الوحيدة التى يتهافت عليها الناس فى مدينتنا الضخمة وقبل أن أخبركم بالسبب أود أولاً أن أخبركم عن صاحب دار العرض هذه.
إنه رجل لا تاريخ له ظهر فجأة إلى حياة الناس فقبل أن يشترى هذه السينما لم يكن أحد يعرف عنه شيئاً وكل ما قيل عنه يبدأ فقط منذ اشترى هذه السينما ولا أحد يعرف عنه شيئاً قبل هذا كما أنه رجل أقل ما يوصف به أنه غريب حقاً فلا أحد يدرى أين يعيش ولا أحد يدرى إن كان له عائلة أم لا والأسوأ هو أنه لم يشاهد قط من قبل أى إنسان خارج هذه السينما حتى أن البعض قد رجح أنه يعيش داخل حجرة مكتبه القابعة أعلى دار العرض وهو دائما يرتدى نفس البذلة السوداء الحالكة ذات القميص الأبيض الناصع ورباط العنق القصير ذو اللون الأحمر القانى أما بشرته فهى بيضاء تماماً كأنما لم يتعرض للشمس قط أشيب الشعر كأنما بلغ من العمر أرذله ورغم هذا فهو يبدو دائماً موفور الصحة وأجمع من رأه أنه لا يبتسم قط هذا هو الرجل الذى أحدثكم عنه.
أما دار العرض نفسها فكانت من قبل واحدة من تلك الدور التى لا تلقى قبولاً من الجماهير ورغم أن حالها لم يتغير كثيراً منذ اشتراها هذا الرجل إلا أنها أصبحت الآن دار العرض الوحيدة التى تجتذب المشاهدين وهى تعرض الفيلم الذى دفعنى للكتابة الآن فهذا الفيلم حينما عرض فى دور عرض أخرى لم يستمر عرضه سوى يومين اثنين فقط حتى أن إحدى قاعات العرض رفعته بعد العرض الأول وأجمع النقاد الذين شاهدوه أنه لا يمكن أن يصنف على أنه فيلم بالأساس أو أنه ينتمى لعالم الفن أصلاً فما الذى دفع بهذا الفيلم إلى الصف الأول رغم أنه لا يعرض إلا بدار عرض واحدة؟ ... إنها الشائعات ... الشائعات هى التى تغير من أراء الناس واتجاهاتهم فقد أشيع أن من يدخل الفيلم فى هذه الدار تحديداً فإنه يرى وجهه بوضوح بين وجوه المجاميع هائلة العدد التى تظهر فى عدة مشاهد من الفيلم ومما غذى سريان هذه الشائعة أن بعضهم (وربما كانوا من المأجورين) قد أقسم أن وجهه قد ظل معروضاً على شاشة العرض بين وجوه الكومبارس لمدة قاربت على دقيقة كاملة وأنه كان يرى ملامحه بكل وضوح وقد قال آخر أنه ذهل تماماً حينما رأى وجهه على الشاشة رغم أنه كان مسافراً إلى إحدى الدول العربية ولم يعد إلا هذا الأسبوع فقط مما يستحيل معه احتمال تصادف وجوده فى مكان تصوير أحداث هذا اللغو الذى يطلق عليه فيلم سينمائى، هذه الشائعة التى سرت بين الناس سريان النار فى الهشيم دفعت الآلاف من البشر للتزاحم أمام دار العرض الغريبة هذه وهو ما شجع إحدى دور العرض لعرض الفيلم مرة أخرى فى قاعتها الرئيسية إلا أن أى من مشاهديه لم يحدث معه ما حدث مع الدار الأخرى أبداً فتم رفعه من العرض مرة أخرى.
وأكثر ما يثير حنقى هى تلك اللوحة الهزلية التى يعلقها صاحب دار العرض أمام الباب وكتب عليها باللون الأحمر والأرضية السوداء "قبل أن تخطو إلى الداخل عليك أن تستعد للمفاجأة" وهى تستثمر بشكل أو بآخر تلك الشائعة كما تستثمر اسم هذا الفيلم الأحمق والذى سماه صانعوه "المفاجأة".
كان هذا نص المقال الذى كتبته ونويت أن أرسل به للمطبعة كى ألحق الطبعة الأولى لكن خبراً تم بثه من دقائق معدودة جعلنى أأجل إرساله لحين معرفة ما تسفر عنه الأمور، كان الخبر يقول أن خبير الخدع السينمائية الشهير حسام الشاذلى (الذى عمل لفترة طويلة فى استوديوهات هوليود مع أعظم مخرجيها وعاد منذ عامين ليستقر هنا) كان هذا الخبير يعلن رفضه المطلق لمثل هذه الشائعة وأنها لا تخرج عن كونها خدعة متقنة بشكل ما من أحدهم وأنه سيذهب بصحبة بعض أرقى الخبراء فى مجال البصريات وعلم النفس والسينما والأشعة بصفته خبير فى الخدع السينمائية ومعهم أدواتهم لكشف زيف الخدعة التى يتعرض لها جمهور هذا الدار وأنه يتحدى صاحب دار العرض أن يدعوهم لإجراء هذه التجارب، وفى صباح اليوم التالى كان الخبر يتصدر صفحات كبرى الجرائد اليومية من مختلف ميولها (سياسية – أدبية – رياضية فضلاً عن الفنية حتى أن الأمر تخطى حدود الوطن إلى جرائد الدول العربية المختلفة) وحتى صباح اليوم التالى لم يصدر عن صاحب دار العرض أى تعليق كل ما حدث أن مدير دار العرض صرح تصريح مقتضب لإحدى الصحف المغمورة قليلة الانتشار بأن ما يحدث فى دار العرض لا يعرف عنه شيئاً وأنه لا يملك أى معلومات للنشر حول هذا الصدد وكان هذا التصريح الصغير كفيلاً بأن يرتفع توزيع الصحيفة المغمورة إلى أرقام فلكية فى هذا اليوم وهو ما آثار حفيظة حسام الشاذلى الذى كرر تحديه مرة أخرى وهو أكثر ثقة بنفسه عن ذى قبل وانتظر الجميع ما قد يسفر عنه هذا التحدى ولكن هذا لم يمنع أو يخفف الزحام الغير عادى أمام باب دار العرض التى أعلنت عن فتح أبوابها 24 ساعة للجماهير لمشاهدة الفيلم كما لو كانت تتحدى المشككين فى الأمر، أما صناع الفيلم أنفسهم فلم يتكلم أحد منهم للصحافة أو الراديو أو التليفزيون أو حتى مواقع الإنترنت ولا بحرف واحد بل احتجبوا جميعاً عن الأنظار تماماً واصبح من الصعب جداً إن لم يكن من المستحيل أن يصل إليهم صحفياً أو مذيعاً حتى أن منتج الفيلم ومخرجه قد سافرا إلى خارج البلاد حتى تنتهى هذه الزوبعة المحيطة بالفيلم وهو أمر مريب آخر فهى فرصة لصناع الفيلم وممثليه للظهور أمام عدسات الكاميرات والصحافة ليزدادوا شهرة وثراء لكن أى من هذا لم يحدث أبداً ... فقط صمت مريب سيطر على الوضع وهو ما دفع مزيد من الجماهير إلى محاولة الحصول على تذكرة دخول العرض بأى ثمن وهى فرصة لم يفوتها البعض فارتفع ثمن التذكرة من عشرة جنيهات إلى مائة جنيه فى ثلاثة أيام فقط إلا أن الزحام لم يتأثر أبداً فقد أتى الجميع بين مصدق للخبر ويريد أن يرى وجهه على شاشة العرض وبين متشكك جاء ليتأكد بنفسه وبين مكذب جاء ليفضح الكذبة ولهذا وجدت الصحافة والتلفزيون مقراً دائماً لها أمام باب دار العرض لمحاولة الحصول على تصريحات من الجمهور بعد خروجه لكن التصريحات تضاربت تماماً فهناك من أكد الخبر وأقسم على ذلك وهناك من نفاه تماماً وهناك من قال أنه رأى من يشبهه بين جموع الكومبارس دون أن يتأكد إن كانت هذه ملامحه فعلاً أم لا وعلى هذا لم نحصل بعد على إجابة شافية بالمرة ... فكل شيء متعلق بهذه الشائعة تجده ضبابياً ولا يوحى بحقيقة قاطعة ... أغرب ما شدنى لهذه الحكاية هو موقف الجهات الرسمية التى أجمع كل مسئولوها على رفض التعليق على الأمر رغم أن حالة البلبلة هذه مستمرة لشهر كامل حتى الآن كما لو أن الأمر يحدث فى بلد آخر غير البلد الذى هم مسئولين فيه.
أخيراً ظهر صاحب دار العرض بعد خمسة أيام من الصمت المطبق ليعلن أن ما يحاوله حسام الشاذلى لن يؤثر إلا عليه وطاقمه بالسلب وينصحه ألا يقدم على ما أزمع القيام به ورغم ذلك فهو يرحب به هو ومن أراد من فنيين أو خبراء للحضور لاستجلاء الحقيقة والتى زعم صاحب دار العرض فى تصريحه أنه حريصاً عليها كحرصنا جميعاً، وهنا جن جنون حسام الشاذلى وأعلن أنه سيزور دار العرض الليلة ومعه طاقم كامل لكشف الحقيقة سواء كانت شائعة أم خداع بصرى أو أى شيء آخر فإنه سيعلن نتيجته بكل شجاعة وبكل صراحة.
وفى المساء احتشد آلاف من البشر أمام باب دار العرض وآلاف أخرى من ناقلى الأخبار سواء لصحف أو تلفزيونات أو مواقع الانترنت أو حتى هؤلاء الفضوليين والمتطفلين وهكذا تحولت المنطقة التى تقع بها دار العرض إلى ما يشبه يوم الحشر وما أن ظهرت السيارات التى تقل حسام الشاذلى ومعاونيه ومعداته حتى انقضت عليهم الصحافة والتليفزيون للحصول على تصريح منه لكن علامات الحزم والجدية المصاحبة للصمت المطبق منه ومن معاونيه صرفت عنه هذا الحشد حتى دخلوا إلى قاعة العرض والكل يأمل أن ينجلى غموض هذا اللغز الليلة سواء بتأكيد الظاهرة ومن ثم البحث عن أسبابها ومحاولة الاستفادة من نتائج البحث بعد ذلك أو بنفى الظاهرة تماماً ومن ثم البحث عن مصدر الشائعة أو منفذ الخدعة لمحاسبته على هذه البلبلة التى سرت بين الناس طوال شهر كامل.
واستمر وجود هذا الحشد أمام باب دار العرض لمعرفة الأخبار عند انتهاء الفريق من أبحاثه بهذا الشأن ... لكن لا أحد يعلم ما الذى حدث هذه الليلة على وجه اليقين فقد أجمع الآلاف المتواجدين أمام باب دار العرض على نفس الرواية وهى "أنه بعد بدأ العرض بحوالى ثلاث دقائق سمعوا صرخات مدوية تنم عن فزع شديد صادرة من داخل دار العرض مصحوبة بأنوار باهرة جداً حتى أن كل الحشد المتواجد أمام باب دار العرض قد أغمض عينيه من شدة الإضاءة حتى هؤلاء المتواجدون على مسافة بعيدة من دار العرض ثم اختفى الضوء فجأة وساد صمت ثقيل على المكان ولم يجرؤ أحد على الدخول إلى دار العرض إلا ثلاثة أو أربع شبان هرولوا إلى داخل دار العرض بعد أن ساد الظلام بداخلها وكانت هذه هى المرة الأخيرة التى شوهدوا فيها على الاطلاق فلم يكرر أحد هذه الفعلة إلا بعدما وصلت قوات الشرطة التى فرضت حصاراً شديداً على المكان وأبعدت المحتشدين تماماً" ولمدة ثلاثة أيام متواصلة كان التعتيم على ما حدث هو سيد الموقف وكان التصريح الوحيد الذى أدلى به أحد المسئولين من الشرطة خلال هذه الأيام الثلاثة "أن الأمر ما زال فى إطار البحث والتقصى عن الحقائق وأن المكان سيظل مغلقاً لحين الوصول إلى نتائج" وبعد هذه الأيام الثلاثة خرج أحد المسئولين بتصريح مقتضب أشار فيه إلى أن الجهات المعنية تعتبر الأفراد الذين تواجدوا فى دار العرض هذه الليلة فى عداد المفقودين وأنها ستغلق هذه الدار تماماً وتمنع الدخول إليها مع مصادرة كل النسخ الخاصة بالفيلم المعروض وقتها ومنعها من العرض وكذلك ستمنع القائمين على هذا الفيلم من السفر لحين الوصول إلى نتائج نهائية فى هذا الشأن.
بعد شهر آخر من هذه الأحداث أغلقت جهات التحقيق هذا الملف وأمرت بهدم دار العرض وإعدام نسخ الفيلم واعتبرت أن ما حدث أمر لم تتمكن جهات التحقيق من جلاء سره، وهكذا أصبح الأمر من الأمور الغامضة التى لم تجد لها حلاً أبداً وإن كنت أعتقد أن هذا الأمر سيخلف من وراءه زوبعة تمتد لزمن بعيد قادم.
القاهرة 15 من أكتوبر 2013
عثر على هذه الأوراق ضمن مذكرات الصحفى المرموق (يوسف إسماعيل) بعد أن أبلغ ذويه عن اختفائه الغامض منذ عدة أيام ولا يزال التحقيق مستمراً حول واقعة اختفائه.