اعانى منذ صغرى من القهر والظلم فما بين
تحذيرات أبى وأمى بسماع أوامرهما دون مناقشة إلى استهزاء المدرسين من أى محاولة
للفهم والمناقشة حتى تعنت أساتذة الجامعة ضد أى رأى بين الطلاب مخالف لما ورد
بكتبهم .. نشأت منذ الصغر على السمع والطاعة، فأنا ولد مؤدب إذا سكت فى البيت،
تلميذ مجتهد إذا إلتزمت حفظ المنهج الدراسى، شاب مثالى إذا لم أناقش أساتذتى وآمنت
بأرائهم .. حتى تسربت إلى نفسى سلوكيات الخنوع والخضوع .. تحولت إلى شخص يقبل أن
يرتفع الآخرون على هامته المكسورة دوماً .. أقبل الظلم بلا تذمر .. أوافق على
الإهانة بلا حزن .. يمكن لأى من كان أن يغتصب حقوقى ويمتهن من كرامتى ولا أغضب .. مذلولاً
طوال الوقت .. كنت فى داخلى أدرك أن هذا خطئى .. اعرف أن ما يحدث لى، يحدث فقط
لأننى قبلت به .. وإنى إذا لم اسع لحقى فلن يأتى إلى .. ما ارغب فى الحصول عليه لن
يقدمه أحداً لى ولكن على أن انتزعه لنفسى .. بينما لاافعل فى الواقع أى شيء من أجل
أن تعود إلى كرامتى .. حتى إذا تذمرت .. اتذمر فقط بينى وبين نفسى ولا أقاتل من
أجل نفسى .. أتأفف سراً .. اتألم دون أنين .. لدرجة أن هذا السلوك النفسى تحول
أيضا إلى سلوك جسدى .. فكنت طوال الوقت أمشى مطأطأ الرأس منحنى الظهر حتى إعتاد
رأسى على الطأطأة وإعتاد ظهرى على الإنحناء.
ذات صباح استيقظت لأجد الشوارع تموج بمئات
البشر .. يرفضون الظلم .. يكرهون الصمت .. يلعنون الذل .. يطلبون الكرامة والحرية
.. يقاتلون من أجل عزتهم ورفعة شأنهم .. ومع الوقت يزدادون إلى آلاف .. إلى ملايين
.. يتشبثون بحقوقهم .. يعاندون فى صواب رأيهم .. يتمسكون بأحلامهم حتى لاتسرق من
بين أيديهم .. بهرنى سلوكهم وتحضرهم .. جذبنى تفتح عقولهم .. أسرنى ثباتهم ..
اتابعهم من شباك حجرتى مندهشا .. كيف تجرؤوا هكذا؟ .. أين ذهب الخوف من قلوبهم؟ ..
كيف مات الخنوع فى أنفسهم؟ من أين لهم هذا الثبات وهذا الوعى؟ .. كانوا يتصايحون
(يا أهلينا انضموا لينا) .. ملئنى ندائهم بالحماس .. من يرفض دعوة لمحاربة الظلم؟
.. من يرفض التحرر من الذل؟ .. من يرفض الدفاع عن الكرامة والحرية؟ .. أبدلت
ملابسى بسرعة وهرولت إلى الشارع كى أنضم إلى الموجات الهادرة من البشر الساعين إلى
الحق .. ما إن خرجت إلى الشارع حتى آتانى صوت قنابل الغاز مرعباً .. ورائحتها
أسالت الدمع وخنقت الأنفاس .. طلقات الرصاص مفزعة .. تحصد منهم من تلاقيه ..
يتساقطون بكثرة .. ويكمل غيرهم المسير .. إنهم مجانين حتماً .. من يلقى بنفسه فى
هذا الجحيم؟ .. ألا يخشون الموت؟! .. ألا يحافظون على سلامتهم؟ .. تراجعت إلى مدخل
البيت من جديد .. اصابنى الاضطراب .. جبنت .. جزعت .. عدت إلى شقتى مرة أخرى ..
وجلست أشاهد التلفاز منحنى الظهر كالعادة .. أتسائل .. لماذا تراجعت؟ .. لماذا
جبنت؟ .. لماذا جزعت؟ .. اكتشفت الآن حقيقة نفسى .. أنا أقبل أن اهان واحتقر
واستعبد لأنى أخاف .. أغلقت النوافذ وجلست فى الظلام لأنى لا استطيع مواجهة الشمس ..
بدأت اسب هؤلاء الذين اشعرونى بضعفى وخوفى وجبنى وذلى .. ألعن من اشعرونى بتقبلى
للظلم دون خجل .. اكره أنهم كشفوا لى كم أنا ضئيل .. خانع .. خاضع .. ذليل .. أمقتهم
جميعاً لأنهم عرونى أمام نفسى.
زاد حنقى وحقدى عليهم حينما نجحوا فى مسعاهم
.. وبسرعة .. لأن هذا النجاح اعجزنى أكثر .. اظهرنى قزماً أمام أفكارهم وجرأتهم ..
لم أكن فى حاجة للبحث عن حجج أدارى فيها مشاعرى .. فقد تكفل غيرى بهذا وتمسكت
بحججه .. الاستقرار .. عجلة الإنتاج .. إنهيار سوق المال .. توقف السياحة .. كلها
تهم من السهل إلصاقها بهؤلاء الرجال كى استر عجزى خلفها .. ومعى ملايين غيرى
يسيرون فى نفس الدرب تحت ظل السيد الجديد.