الثلاثاء، 1 يوليو 2008

الساعة

إنها الآن الواحدة صباحاً، ما الذى وضعنى فى هذا الموقف؟ … بعيداً عن بلدتى أجوب شوارع القاهرة بلا هدف … يحيطنى اليأس من كل مكان … حتى وجوه الناس التى تمر أمامى الآن تعلوها قسمات لم اعتدها على أوجه المصريين ... يبدو أن القاهرة لم تعد ترحب بزائريها هذه الأيام ... فقد فقدت حافظة نقودى فى اللحظات الأولى التى صافحت عينى فيها سماء القاهرة ... ومن بين ما فقدت الورقة المدون بها عنوان خالى الجديد ورقم هاتفه ... وبذلك أصبحت حبيس شوارع القاهرة... أصبحت القاهرة أكثر ازدحاما مما سبق ... الضوضاء فى كل مكان حتى بعد أن تجاوزت الساعة الواحدة صباحاً ... ألا ينام أهل القاهرة أبداً ... قررت الاتصال بمنزلى كى أحصل مرة أخرى على رقم هاتف خالى عله يخرجنى من هذا المأزق ... لكن عامل مكتب الاتصالات رفض بتهذيب شديد مغلف بحدة وحزم لأننى لا أملك نقوداً للاتصال ... ذهبت مشياً إلى المنطقة التى يسكن بها خالى من خلال ما بقى فى الذاكرة من الورقة المسروقة ... كانت بعيدة ولكننى احتملت آلام السير علنى أجد الفرج فى النهاية ... حينما وصلت إلى الحى اكتشفت أنه أكبر من قريتى كلها عدة مرات تذكرت والدى المريض وهو يرجونى ألا أذهب إلى القاهرة وأتركه وحيداً مع ابنى الصغير ... كانت رحلتى إلى القاهرة هى الأمل الوحيد لتدبير مبلغ ولو بسيط لشراء دواء لأبى وطعام لأبنى ... ولكن النتيجة أننى الآن لا أملك عنوان خالى أو رقم هاتفه، لا أملك نقوداً للعودة ولا أدرى ماذا أفعل؟ ... الساعة ... إنها الآن الثانية صباحاً ... الساعة ... نعم هى الحل الوحيد الآن ... لكنها من نوع رديء ولا تساوى شيئاً ... لا شكراً ... لا أتعامل فى هذا النوع ... لا تصلح للبيع ... عفواً ... كلمات عدة تحمل نفس المعنى كما لو أن كل أصحاب محال الساعات تآمروا على حالتى ... بقيت الساعة فى يدى وعقاربها تتقافز فى سرعة كأنها تخرج لى لسانها ... قررت أن أبيعها للمارة ولو بثمن بخس ... صوت أبى يملئ أذنى يا بنى لا تسافر ... قسمات وجهه تتألم فى صمت تحفزنى أكثر كى أسافر ... صغيرى وهو يتضرع أن أصحبه معى ... دموعه تملئ عينيه ... المارة لا يكترثون لندائى ... أنين أبى ... بكاء طفلى ... صوت عقارب الساعة ... خطوات الناس على الطرقات ... نظرات شفقة لا احتملها ... نظرات تعاطف لا تجدى ... ابتسامات هازئة تقتلنى ... حتى هؤلاء الطيبين الذين أرادوا مساعدتى كانت نظراتهم تشك فكانت مساعدتهم مجرد كلمات مواساة ... هل مازال طفلى يبكى ... هل بكائه الآن من الجوع أم لرغبته فى مصاحبتى ... الجميع يرفض شراء الساعة ...أو ربما لايملك أحد ثمنها الزهيد ... فلأعبر إلى الجهة الأخرى من الطريق ربما كان المارة هناك أفضل من هنا ... أبواق السيارات المسرعة جعلتنى أتراجع ... أصوات شباب ضاحكة تعلو ... هل أجد بينهم مشترى ... هرولت إليهم ... كانت رائحة الخمر تفوح من أفواههم لكننى كنت أفكر فقط فى نقود العودة ... هل من مشترى لهذه الساعة ... الساعة ؟ هاهاهاها ... الساعة كام على باب السيما الساعة كام ... أرجوكم لا تسخروا منى أنا فى حاجة لثمنها ... لماذا هل منعتك أمك المصروف اليوم ... ضحكاتهم تعلو ومعها ضغط دمى ... توجهت نحو أحدهم ... من فضلك اشترى هذه الساعة ... تلتهب نظرات السخرية فى عيونهم ... تلتهب أعصابى ... لكننى أحاول مجدداً ... إنها رخيصة ولن تكلفكم الكثير ... هيا اذهب من هنا، تباً لكم أيها النصابون هكذا قال أضخمهم وهو يدفعنى بعيداً ... كانت يده قوية ... لم أتمالك نفسى ... أندفع إلى الوراء ... حافة الرصيف تهرب من تحتى ... أسقط أرضاً وأنا أبكى من داخلى ... أبى كيف أنت الآن ... أحاول أن أتشبث بأى شيء ... طفلى هل أكلت أم لا ... ارتطمت بالأرض ... يا بنى لا تسافر ... تطير الساعة من يدى ... أراقبها وهى تعلو ... ثمن الدواء غالى ولا أملك النقود ... الساعة تهبط بسرعة إلى الأرض ... نفد الطعام من البيت وصغيرى لا يصبر على الجوع ... ترتطم الساعة بالأرض ... بكاء طفلى يحتل أذنى ... تتناثر الساعة قطعاً صغيرة أمام عينى ... أنين أبى يعلو ... تمر سيارة مسرعة فوق الباقى من قطع الساعة.
كان اليأس يمزق قلبى ... جلست على حافة الرصيف واضعاً رأسى بين كفى ... رغم عنى انهمرت دموعى فى صمت ... يد تربت على كتفى ... وجه مبتسم يملئه النور ... كان شاباً هادئ القسمات ... سألنى عن قصتى وأجبته ... دعانى للعشاء وصاحبنى حتى محطة القطار ... حينما صافحته لأودعه وأشكره دس فى يدى ورقة مالية من فئة كبيرة ... حاولت أن أشكره على الأقل ... ابتسم وانصرف ... عائداً الآن إلى بيتى مع نسمات الفجر ... فى يدى دواء أبى وطعام ولدى ... بداخلى قرار أن أرد الجميل ... لكننى لا أعرفه ولا أعرف عنوانه ... لكن يمكننى رد الجميل بمساعدة الآخرين فى مواقف المحنة قدر استطاعتى ... طفلى ينتظر فى الشباك ما أن رآنى حتى هرول إلى مبتسماً ... ارتمى فى أحضانى ... حملته إلى الدار ... صوت أبى يدعو لى بعد أن صلى الفجر.

هناك 23 تعليقًا:

شهد الكلمات يقول...

اول تعليق

حلوة جدا جدا جدا بجد حسيت اني دخلت جوة دوامة الحياة بتاعته حسيت بمشكلته و اتنرفزت معاه و اتبسط معاة

بجد اسلوبك جميل

مستنية اشوف التاج ;)

تحياتي

محمد فاروق الشاذلى يقول...

شهد الكلمات
لكم وجدت تعليقك فى غاية التشجيع وكم كان مساعداً لى كى أدرك إلى أى مدى أصاب إجتهادى فى كتابة القصة.
أحمد الله أن مشكلة التعليق قد انتهت وإن شاء الله سيكون البوست القادم هو التاج.
سعدت بمرورك وأشكر إهتمامك

فارس بلا جواد يقول...

رائع جدا وسلمت يداك
بالفعل لا اجاملك إن قلت لك ان أسلوبك شيق جدا في العرض ..وأخذتنا معك في تلك القصة فشعرنا بالمأساة وعشنا معك لحظات توتر وقلق وشفقة وفرحة في النهاية
قلمك مبدع .. وبالمناسبة كنت سأحزن لو لم تختم القصة بهذة النهاية لأن مهما تكون الحياة تغيرت للأسوء فأنها لا تخلو أبدا من بعض الشهماء الذين نجدهم وقت المحنة وهذا لا يزال طبع في المصريين وإن كان ندر عن الماضي

محمد فاروق الشاذلى يقول...

دكتور فارس بلا جواد
أولا أشكرك على كلماتك التى جعلتنى أسعد للغاية.
ثاياً بالفعل كانت النهاية مختلفة لولا رأى زوجتى الحبيبة وهى ناقدتى الأولى والتى اقنعتنى بعد محاورة طويلة أن الشهامة لم تختفى بعد من المصريين فلها الفضل فى هذه النهاية

غير معرف يقول...

أهنئك على تلك القصة الرائعة مع تمنياتى لك بالاستمرار والتوفيق فى انتظار المزيد

محمد فاروق الشاذلى يقول...

عزيزى غير معرف
أشكرك مرورك الكريم على المدونة واعتز جداً بتهنئتك لى على مستوى القصة.

dina seliman يقول...

رائعه بل واكثر
سعدت كثيرا بما قرأته هنا
تربط للافكار رائع اخذنى من اول كلمه ولم اشعر الا عند النهايه


دمت مبعا ودام قلمك

محمد فاروق الشاذلى يقول...

دينا سليمان
أسعدنى جداً تعليقك وأسعدنى أكثر أن القصة قد إجتذبتك إلى هذا الحد.
مرحباً بك فى المدونة دائماً

إيثار يقول...

مش عارفة اقول ايه
لكن فعلا اسلوبك رائع
شدني جدا
منتظرة جديد
و شكرا لزيارتك المتكررة لمدونتي
و الى اللقاء في قصة جديدة

تحياتي

رؤية يقول...

روعة....ولا تعليق لى اخر!!

محمد فاروق الشاذلى يقول...

عاشقة الحب
سعيد جداً بتعليقك على القصة وأكثر سعادة لأنها جذبتك إلى هذه الدرجة
ولا داعى للشكر على زياراتى لمدونتك فلو لم تكن على مستوى جيد ما تكررت الزيارات.

محمد فاروق الشاذلى يقول...

رؤية
خير الكلام ما قل ودل
أشكرك

غير معرف يقول...

أتمنى أن أقرأ لك قريبا قصة جديدة فلا تقل من انتاجك الأدبى وفقكم الله دائما

شهد الكلمات يقول...

إعلان هام

تم بحمد الله افتتاح فرعنا الجديد في المدونات مدونة حكاوي القهاوي
تعاطفك واحده مش كفاية أتبرع و لو بزيارة
تعالوا زورونا باي باي
http://hakawyelahawy.blogspot.com

الفارس الملثم يقول...

طبعا ده اول مرور لي في مدونتك المتميزه , واكتشفت اننا تجمعنا الاهتمام بكتابة القصه ..

حقيقي اسلوبك جميل اوي وتميز بالبساطه والعمق في نفس الوقت ..

النهاية اراها جميله اوي نظرا للمعني الذي يستخلصه القارئ , فبالتاكيد في حياتنا اشخاص قدموا لنا يد العون , وحتي ان عجزنا ان نرد لهم الجميل , فمساعدتنا لمن يحتاج المساعده ,نكمل الحلقه في ان يسود الحب والايثار ومساعدة الاخرين بين الجميع

تحياتي وسعدت جدا بالمرور هنا

محمد فاروق الشاذلى يقول...

شهد الكلمات
ألف مبروك إفتتاح الفرع الجديد وإن شاء الله سأزور المدونة وأنا كلى ثقة أنها لن تقل عن مستوى شهد الكلمات أو سيد غتاتة.

محمد فاروق الشاذلى يقول...

الفارس الملثم
شرفت المدونة المتواضعة
أسعدنى جداً أنك وجدت أسلوب الكتابة جيد، أما بخصوص نهاية القصة فكما قلت من قبل لفارس بلا جواد أنها كانت مختلفة لولا مناقشة مطولة مع زوجتى الحبيبة القارئة الأولى لأعمالى والناقدة لها كذلك وهى التى أقنعتنى أن الخير لم ينتهى بعد من قلوب المصريين.
وإذا سمحت لى أن نتبادل الروابط أكون فى غاية السعادة وأنتظر رأيك.

محمد فاروق الشاذلى يقول...

غير معرف
أسعدنى مرورك بالمدونة وإن شاء الله ستجد قصة جديدة قريباً لكن بعد التاج الذى أرسلته لى الأخت شهد الكلمات

Rouaa72 يقول...

جميلة قوى يا مان ويارب على طول

محمد فاروق الشاذلى يقول...

أشكرك ياصديقى (فنون مسرحية) وأتمنى تكرار زيارتك للمدونة وهو ما يسعدنى للغاية.
وأشكرك على تعليقك

NilE_QueeN يقول...

هنالك كلمات تصف ما هو رائع وما هو مذهل وما هو مؤثر ولكن لا توجد كلمات تصف ما اسمي من ذلك

محمد فاروق الشاذلى يقول...

ملكة النيل (نايل كوين)
أعجز عن الرد على كلماتك، لكن أشكرك عليها لأنها دفعت السعادة إلى قلبى بقوة
أشكرك جداً

غير معرف يقول...

حلوة اوى اوى انا دخلت جوة القصة بجد ولقد تبادلت الجو النفسى مع البطل وشعرت للحظة انه من الممكن ان يحدث هذا مع اى منا وانت عبرت بشئ من السهولة واليسر وبسط الحكاية على الاخر بجد انا اعجبت باسلوبك اوى اوى